انظروا معي إلى حادثة عجيبة :تعلمون أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم سنَّ لأصحابه يوم عرفة أن يُصلي الحجيج على عرفة الظهر قصراً ركعتين وبعده مباشرة العصر قصراً ركعتين، وظلَّ المسلمون على هذا العهد سائرون، فى عهد أبى بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم فطن عثمان رضي الله عنه إلى أن الإسلام دخل فيه أناس كثيرون جدد لا يفقهون حقيقة الدين وربما ظنُّوا أن صلاة الظهر والعصر ركعتين في يوم عرفة فريضة ومن تركها فقد خالف النبي الأمين
كما روى أنَّه رضي الله عنه وجد فى الحج إعرابياً مازال يصلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين منذ الحج الماضى- فصلَّى يوم عرفة الظهر أربع ركعات والعصر أربعاً، أى صلاهما كهيئتهما المعتادة بدون قصر، فرأى ذلك بعض المنافقين فذهبوا مسرعين إلى أبى ذر الغفارى رضي الله عنه وقالوا له: أرأيت ما فعل عثمان اليوم؟
{إِنَّ عثمانَ صَلَّى أَرْبَعاً- أى الظهر أربعاً والعصر أربعاً- فاشْتَدَّ ذَلِكَ على أَبِي ذَرٍّ وقالَ قَوْلاً شَدِيداً، وقال: صَلَّيْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَكعتينِ وصلَّيتُ مع أَبي بكرٍ وعُمرَ، ثمَّ قامَ أَبو ذرٍّ فصلَّى أَربعاً، فقيلَ له: عِبْتَ على أَميرِ المؤمنينَ شَيئاً ثمَّ تَصْنَعُهُ؟ قال: الخِلاَفُ أَشَدُّ}{1}
لأن نبينا شدَّد على عدم الخلاف بين المسلمين، فتركوه وذهبوا إلى سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ونقلوا له نفس الحوار، وردَّ عليهم بنفس الردِّ الذى ردَّه أبوذر الغفاري، ولكن للعجب فعل بن مسعود مثلما فعل أبو ذر رضي الله عنهما، فتعجبوا وسألوه لِمَ صليت الظهر والعصر أربعاً أربعاً؟ قال: الخلاف شرٌّ، ذلك لأن الله منع
المسلمين عن الخلاف.
أما إذا حدث خلاف بينهم في أمر من أمور الدين، فما دام الأمر وارداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والكل يأخذ من سُنة حَبيب الله ومُصطفاه، لِمَ الخلاف بيننا؟ أخذتَ جانباً وأخذتُ أنا جانباً آخر، العلماء أصحاب المذاهب كانوا مختلفين في هذه الهوامش لأن كل واحد منهم أخذ ما ارتضاه من الذى ورد إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكننا لم نسمع أنه حدث بينهم خلافٌ أو حدث بينهم صدامٌ أو مشاحنات، ولكنهم كانوا يُعظِّمون بعضهم ويُقدِّمون بعضهم لأنهم علموا أن ذلك كله من دين الله.
الإمام الشافعي رضي الله عنه صاحب المذهب كان عنده القنوت
{الدعاء في صلاة الصبح} بعد القيام من الركوع، والإمام أبو حنيفة عنده القنوت في صلاة الوتر في الركعة الثالثة، ذهب الإمام الشافعى ليصلى الفجر في مسجد أبي حنيفة بعد موته فترك القنوت في الصبح، فقالوا له: لِمَ تترك القنوت مع أنه واجب في مذهبك؟ قال: تأدُّباً مع صاحب المذهب في مسجده
هكذا كان أدبهم مع العلماء، لم يكن بينهم لا سباب ولا شتم ولا لعن ولا عصبية لأنها كلها واردة عن خير البرية صلى الله عليه وسلم، مادام الرأى الذى تهواه أنت له أصل في السُنة، والرأى الذى أهواه أنا له أصل في السُنة لِمَ العصبية؟
{قيل للإمام مالك إنه يلينا قوم يرون خلاف ما ترى في السهو، يرون أن ذلك عليهم بعد السلام فيسجد بنا بعد السلام ، قال: اتبعوه فإن الخلاف أشد}{2}
ولماذا يعتقد الإنسان أن رأيه هو الأفضل وهو المعتبر؟ هذه هى سر الخلافات التى تحدث بيننا في هذه القضايا، مادمنا ليست بيننا خلافات في الأصول ولا في العقيدة علينا أن نتحفظ على كل الخلافات في الفروع والهوامش حتى نُبقي على
وحدة صف
المسلمينوعلى جماعة المؤمنين، ولا نسمح لأى مُغرض يُعكر صفو الجماعة الإسلامية ويُفرق شملها ونطرده من بين صفوفنا حرصاً على جماعة وأُلفة المؤمنين التي ارتضاها لنا الله.
لماذا نُسمي أنفسنا بأسماء ونترك الإسم الذى اختاره الله لنا في خير كتاب وسمانا به أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام:
{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} الحج78
فيُسمِّى قوم أنفسهم سلفيين، والآخرون صوفيين، والآخرون أنصار سُنة، والآخرون جمعية شرعية، إذا كانت أسماء اصطلاحية فلا بأس بها، لكن ينبغي ألا توجِد خلافاً بين المسلمين، نحن جميعاً على اختلاف الطوائف مسلمين آمنا بالله رباً وبمحمد نبياً وبالقرآن كتاباً ولا نختلف في أى بند من بنود العقيدة ولا في أى أصل من أصول الدين، لماذا نثير هذه الخلافات الفرعية الهامشية ونجعلها هى المحك الذى يفصل بين المسلمين؟ وهذه الجماعة تنتمى إلى الشيخ فلان وهذه الجماعة تنتمى إلى الشيخ فلان
أصحاب النبى قال فيهم صلى الله عليه وسلم أجمعين:
{حكماء فقهاء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء}{3}
كان لكل رجل منهم تلاميذ، لعلىّ بن أبى طالب تلاميذ، ولعبد الله بن مسعود مريديه، ولأبى ذر الغفارى المتعلِّقون به، وكلُّ رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم كان له من يقتدي بهديه ويأخذ بهداه، لكنه لا يتعدَّى على غيره ولا يسبُّ أحداً من الآخرين، ولا يدَّعى أنهم جماعة وأنهم أفضل المسلمين، وأن غيرهم أقل منهم شأناً عند الله، وأقل منهم علماً في دين الله، ذلك لأن الله جعل المقياس بين المؤمنين أجمعين هو التقى وقال فيه:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات13
ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن التقوى أشار إلى صدره وقال:
{التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، يَقُولُ: أيْ فِي الْقَلْبِ}{4}
أى لا يعلم التقىَّ إلا مولاه، ولا يطِّلع على ما في الصدور إلا حضرة الله، والمؤمن ينبغي عليه ألا يُفرق بين
المسلمين وإنما نحن جميعاً كما قال الله:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات10
نحن جميعاً إخوان مسلمون لأننا إخوان في الإيمان ومسلمون للرحمن، وجميعاً سلفيون لأننا نتبع سلفنا الصالح ونمشى على هداهم ومنهجهم ونعمل بقوله عز وجل:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن16
وكل واحد يحاول أن يقتدى بهَدْى السلف الصالح على حسب استطاعته، وكلنا صوفيون لأننا ننشد صفاء في القلوب والخشوع لحضرة علام الغيوب، إذاً لماذا الخلاف؟ علينا جماعة المؤمنين أن نخرج من ذلك كله ونتمسك بقول الله
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} البقرة143
نتمسك بالوسطيَّة التى اختارها لنا الله والتى سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتى كانت هديه في كل أحواله، فكان يتوسُّط في صلاته، ويتوسُّط في طعامه، ويتوسُّط في نومه، ويتوسُّط في ملبسه، ويتوسُّط في كلِّ أمر من أموره