الرُّقاة والمجرَّبات
لَـمَّا أعرض فئام من المسلمين عن سبيل سُنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - اعتراهم من الضلال والحيرة والشقاء بِقَدْر هذا الإعراض؛ فمستقلِ ومستكثِر؛ فالإعراض والنكوص عن سبيل المؤمنين ، يلازمه الابتداع والانصياع لمكايد الشياطين ونزغاتهم . ولما حُجِب هؤلاء عن شمس الرسالة ونور النبوة ، أعقب ذلك أمراضاً روحانية ووساوس شيطانية ، وآفات نفسانية ؛ فاستحكمت الأهواء والشبهات ، وراجت الأوهام والخرافات ؛ فأي الفريقين أحق بالأمن والإيمان : الأنبياء - عليهم السلام - وأتباعهم الذين يفتحون الأعين العمي ، والآذان الصُّم ، والقلوب الغُلف ، أم شياطين الإنس والجن الذين يُفسدون السمع والبصر والعقل[size=21][1]؟[/size]
وإزاء هذا الواقع المكتظ بالأمراض الروحانية، وصَرْع الجنِّ ، وتسلُّط الشياطين ، ورواج السحر ، واستحواذ العين ، ظهرت المدافعة لهذه الآفات ، والمعالجة لتلك البليَّات ؛ فبرز «الرُّقاة» يتطبَّبون ويعالجون هذه الأدواء ، وسطَّر العلماء الكتب والفتاوى بشأن الرقية وأحكامها وأحوالها . كما تحدَّثوا عن آفـات الرُّقاة ، وسُبُل الخلاص منها ، وكما قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - : « تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور »[size=21][2].[/size]
ومع رقَّة الإيمان، وضَعْف الديانة عند الكثير، وغلبة الجهل على طوائف من الرقاة ، وما يكتنف النفوس من حبِّ المال والجاه ، آلَ الأمر إلى الاشتباه بين الرقاة وبين الدجالين والمشعوذين ، بل استحال بعض الرقاة سحرةً وشياطين . ولئن كان الشيطان قد زيَّن الشرك ؛ فأظهره في قالب محبة الصالحين كما وقع لقوم نوح - عليه السلام - فإن الشيطان قد لبَّس على أقوام واستدرجهم إلى الشرك تحت ذرائع التطبب الفاسد والرُّقى المحظورة ، كما حصل لأهل نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وكما جاء مبيَّناً في تاريخ نجد لابن بشر[size=21][3].[/size]
والمقصود أن بعض رُقاة اليوم قد ارتكبوا مزالق ومآخذ ، منها : الظاهر الجلي، ومنها : المشتبِه الخفي ، ونورد في هذه السطور ملحظاً ، هو محل اشتباه وإشكال ، ألا وهو التعويل على المجرَّبات ؛ فلقد أفرط الكثير من الرقاة في المجرَّبات ، وفتحوا الباب على مصراعيه ، فقيَّدوا ما أطلقه الشرع ، وخصَّصوا ما كان عامّاً ، وأطلقوا ما كان مقيَّداً ؛ فآيات قرآنية حددوها لعلاج الداء الفلاني ، وآيات أخرى خصصوها لداء آخر... وهكذا .
كما أثبتوا هيئات معيَّنة ، وأعداداً محدَّدة عند الاستشفاء بالقرآن ، ودون دليل أو برهان على تلك الهيئات أو الأعداد ، وقد يحتجُّون بما ورد عن بعض السلف... مع أن ما ورد عن السلف لو صحَّ عنهم ، فهو من موارد الاجتهاد والنزاع التي تُردُّ إلى نصوص الوحيين ، وما أطلقه الشارع فلا يسوغ تقييده بلا دليل . يقول ابن تيمية –رحمه الله - : « شَرْع الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم - للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعاً بوصف الخصوص والتقييد ، مثال ذلك : أن الله شرع دعاءه وذِكْرَه شَرْعاً مطلقاً ، فقال : { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } [ الأحزاب: ١٤ ] ، وقال : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [ الأعراف: ٥٥ ] ،ونحو ذلك من النصوص ؛ فالاجتماع للـدعـاء والذكـر في مكـان معيَّن ، أو زمان معيَّن ، تقييد للذكر والدعاء ، لا تدل عليه الدلالة العامة المطلقة بخصوصه وتُقْييده »[size=21][4].[/size]
كما قرر الشاطبي - رحمه الله - هذا المعنى بقوله : « إذا ندب الشرع - مثلاً - إلى ذكر الله ، فالتزم قوم الاجتمــاع عليه على لسان واحد وبصوت ، أو في وقت معلوم مخصــوص عن سائــر الأوقات ، لم يكــن فــي نَدْب الشـــرع ما يدل على هذا التخصيــص الملتـــزم ، بل فــيه ما يدل على خلافه ؛ لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعاً شأنها أن تُفْهم التشريع »[size=21][5].[/size]
وساق الشاطبي – رحمه الله - في موطن آخر أمثلة على البدعة الإضافية ؛ فكان مما قاله : « ومنه تكرار السورة الواحدة في التلاوة ، أو في الركعة الواحدة ؛ فإن التلاوة لم تُشْرَع على ذلك الوجه ، ولا أن يَخُصَّ من القرآن شيئاً دون شيء ، لا في صلاة ، ولا في غيرها ، فصار المخصِّص لها عاملاً برأيه في التعبد لله . وخرَّج ابن وضاح عن مصعب قال : سئل سفيان عن رجل يكثر قراءة : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . لا يقرأ غيرها كما يقرؤها ، فَكَرِهه ، وقال : إنما أنتم متَّبعون ؛ فاتبعوا الأولين ، ولم يبلغنا عنهم نحو هذا ، وإنما أُنْزل القرآن ليُقرأ ولا يُخصُّ شيء دون شيء .
وخرَّج أيضاً عن مالك - رحمــه الله - أنه سئل عن قراءة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مــراراً في الركعة الواحدة ، فَكَرِه ذلك ، وقال : هذا من محدثات الأمور التي أحدثوا »[size=21][6] .[/size]
والمقصود أن في هذه المجرَّبات تقييداً لما أطلق الشارع ، والتزامَ هيئات وكيفيات لا دليل عليها ؛ فأحوال هذه المجرَّبات أنها تتعلق بعبادات ثابتة من جهة أصلها : كتلاوة آيات القرآن أو الدعوات... ونحوها ، لكنها مُحْدَثة من جهة صفتها وهيئتها وعددها[size=21][7] ؛ ولا سيما أن جمهور السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار - رضوان الله عليهم - لم يُنقَل عنهم تلك المجربات ، ولو وَرَد عنهم ذلك لَنُقِل ؛ فهذا مما تتوفر الدواعي لنقله ؛ فكان هذا الترك الراتب عن جمهور الصحابة سُنةً وسبيلاً للمؤمنين .[/size]
وما جاء عن بعض تجارب السلف فهم آحاد ، وُيردُّ ذلك إلى الميزان من نصوص الكتاب والسُّنة ، وما عليه جمهور السلف الصالح ، وخاصة أنهم قد يعوِّلون على ما عاينوه عن علماء جرَّبوا ذلك ، والاستدلال بأفعال العلماء من أضعف الاحتجاج ، وكان يقال : لا تنظر إلى عمل الفقيه ، ولكن سَلْه يَصْدُقك .
وأيضـاً فإن هذه المجــربات لم تَعُـد شيئاً عارضـاً ، بل أضحت أمراً راتباً ، وقواعد مشتهرة ومنتشرة ، يتداولها طوائف من الناس على أنها مسلَّمات وقطعيات وعبر وسائل الإعلام المتنوعة .
وكثرة الـمُحْدَثات والتجاوزات توجب المزيد من الحزم والصرامة ، كما فعل الفاروق - رضي الله عنه - في إنفاذ وقوع الطلاق بالثلاث جملة ، فلَـمَّا أكثر الناسُ مما نُهُوا عنه مـن إيقـاع الطـلاق بالثــلاث جملــة ، رأى عمــر الفــاروق أن يعاقبهم بإنفاذ ذلك عليهم .
« ولا ريب أنه إذا كثر المحظور احتاج الناس فيه إلى زجر أكثر مما إذا كان قليلاً »[size=21][8].[/size]
ويقال أيضاً : يتعذر الجزم بأن هذه المجرَّبات سبب مطرد في حصول المطلوب ؛ فقولهم -مثلاً - : من كان عقيماً، فقال : { رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا } [ الأنبياء: ٩٨ ] كذا وكذا مرة ، يحصل مراده كما جُرِّب ؛ ولا سيما أن السبب لا يستقل بنفسه في حصول المطلوب .
فلعل شدة افتقاره ولجأه إلى الله – تعالى - هو سبب الإجابة ، وليس لأجل التزام هذه التجربة وعَدَدها ، ولَـمَّا احتج بعضهم بأثر لا يثبت : من وسَّع على أهله يوم عاشوراء وسَّع الله عليه[size=21][9] ، وقال سفيان بن عيينة : جرَّبناه منذ خمسين سنة ، فما رأينا إلا خيراً[10].[/size]
تعقَّب ذلك ابن تيمية - رحمه الله - قائلاً : « لا حجة في قول سفيان ابن عيينة ؛ فإن الله أنعم عليه برزقه ، وليس في إنعام الله بذلك ما يدل على أن سببه كان التوسيع يوم عاشوراء »[size=21][11] . وقال في موطن آخر : « ومن هنا يغلط كثير من الناس ؛ فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادة ، أو دعوا دعاءً ، ووجدوا أثر تلك العبادة ، وذلك الدعاء ، فيجعلون ذلك دليلاً على استحسان تلك العبادة والدعاء ، ويجعلون ذلك العمل سُنة ، وهذا غلط... خصوصاً إذا كان ذلك العمل إنما كان أثره بصدق قام بقلب فاعله حين الفعل ، ثم يفعله الأتباع صورة لا صدقاً»[12].[/size]
كما أن حصـول المطلوب ، وقضاء الحـاجات ها هنـا لا يقتضي مشروعية هذه المجرَّبات بإطلاق ؛ « فإن المشركين يُقضى كثير من حوائجهم بالدعاء عند الأصنام ، والأماكن التي يعظمونها ؛ فهل يقول مسلم : إن مثل ذلك سوَّغ لهم هذا الفعل المحرَّم بإجماع المسلمين[size=21][13] ؟[/size]
فلو كان المطلوب مباحاً وسائغاً، فإنه قد يفوِّت ما هو آكد وأهم ، وقد بيَّن ذلك ابن تيمية – رحمه الله – بقوله : « ليس لكل سبب أثر يكون مشروعاً ، بل الشارع ينهى عن أمور لها تأثير في طلب بعض المطالب ، إذا كان ضررها راجحاً على نَفْعها ، كما ينهى عن طلب السحر ونحو ذلك ؛ وإن كان قد يمكن أن يُقتَل به كافر، ويُطَّلع بذلك على بعض أخبار أعداء الإسلام »[size=21][14] .[/size]
وقال أيضاً : « حصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحته ، وإن كان الغرض مباحاً ، فإن ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحته »[size=21][15].[/size]
والمقصود : أن الإيغال في تلك المجربات ، والانشغال بها يفضي إلى أن تكون هي المعيار والميزان ، وليس لزوم السُّنة وتحـرِّي حـال السـلف الصــالح ؛ فعلى الراقـي والمسـترقي أن يلزم ما عليه جمهور السلف ، وأن يقف حيث وقفوا ؛ فإنهم عن علم وقفوا ، وببصر نافذ كفُّوا ، ولهم على كشفها كانوا أقوى ، وبالفضل - لو كان فيها – أحرى ؛ فلئن قلتم : حدث بعدهم ، فما أحدثه إلا من خالف هديهم ، ورغب عن سنَّتهم.